قرأت ذات مرة عن احد أعيان و وجهاء بريطانيا العظمى و أظنه كان من اللوردات, انه كان ينصح أصحاب المال بالقول "إذا رأيتم الدماء تسيل في الشوارع, فعليكم بالاستثمار في العقارات".
هذه النظرة الانتهازية للمآسي
الإنسانية و التي خير من جسدها الحملات الاستعمارية للمنطقة العربية خلال القرنين
الثامن عشر و التاسع عشر للميلاد, نراها تعود اليوم و بقوة على و قع الحركات الاحتجاجية الجماهيرية
على امتداد الجغرافيا العربية.
و الحقيقة التي يجب أن تقال هي أن
تجيييش المشاعر القائم على العواطف الدينية و المذهبية, إذا ما انفلت لن ينفع معه
نصح يعتمد العقل و المنطق, ليصبح جسم المجتمع عرضة للاختراق بكل أشكال الفيروسات
المميتة, لأن هذا النوع من الشحن العاطفي من ميزاته استدعاء التاريخ الصحيح منه و
المغلوط و استحضار الخيال الشعبي الخرافي الذي يدفع البعض إلى نعت الآخر
"بالأنجاس" و "بالكفرة الفجرة" في مشهد لا علاقة له بواقع
اليوم إن على المستوى السياسي أو العقائدي أو الفكري, حتى و إن كانت المجتمعات
تغلب عليها مظاهر الأمية و الفاقة.
و الغريب في هذا المشهد المأساوي بكل
المقاييس, هو انخراط نخب المجتمع بتشكيلاتها السياسية و الدينية و الفكرية و
الإبداعية إلا ما ندر, في هذا المسار ألتدميري للوعي العام و الذي حول مسار
الحركات الاحتجاجية الشعبية من المطالبة بالتحرر من كل أشكال الدكتاتوريات و
الوصاية على العقول و الأفكار و الضمائر, إلى ما يشبه التعبئة العامة ضد عدو من
نسج الخيال, كان يحمل بالأمس القريب اسم الشيوعية و اليوم يحمل اسم التشيع.
ففي الوقت الذي تستعد فيه شعوب للولوج
إلى عصر ما بعد الحداثة, وتتكتل فيه أمم من الصين إلى روسيا و البرازيل و الهند و
ليس انتهاء بجمهورية جنوب إفريقيا و هي التي لا يجمعها أي رابط عرقي أو ديني أو
لغوي أو جغرافي و إنما فقط وعيها بمصالح شعوبها الآنية و المستقبلية, نرى و نعايش أن
أول نتائج ثورات الربيع العربي, هي الفرقة الدينية و المذهبية و العرقية و الفكرية
و إحياء القبليات, في مشهد يعكس بصدق ليس فقط ضعف بنيتنا الحضارية الجامعة و التي
ندعي في خطاباتنا أنها ضاربة في عمق التاريخ, بل ايظا فشلنا الذر يع في استيعاب
واقعنا المعاصر و التكيف معه وفقا للمنهجية التي تقتضي تحرر الإنسان المواطن من كل
أشكال الوصاية على العقل و الفكر و الإبداع و الضمير فضلا عن استعباد البشر و
اعتبارهم مجرد مبرر للحكم بصفتهم آلات انتخابية لا عقل لها و لا وعي.
فإسرائيل تلك الجزيرة الصغيرة ذات
التركيبة البشرية بكل ألوان الطيف, داخل ذلك المحيط العربي "المتجانس" و
المعادي لإسرائيل؟ أو هكذا يراد له أن بكون؟ هي و حدها التي يحق لها أن تكون دولة
بوليسية بامتياز بمنطق الوصاية العربي, و لكنها اختارت النهج الآخر, و لهذا السبب
تراها تتحدى هذا المحيط و انتصرت على جميع جيرانها و مزقتهم شر ممزق.
و عليه يحق لنا أن نتساءل, ما الذي
يدفع هذه النخب إلى الانخراط في هذا المسار العبثي؟ هل هي الرغبة الجامحة في
السلطة و النفوذ؟ ام هي المزايا المادية؟ أم هي الشهرة و المال؟ ثم هل تملك هذه
"النخب" من الوعي و المسؤولية و التجرد ما يؤهلها لقيادة قاطرة المجتمع
نحو التحرر الفعلي من الدكتاتورية و كل أشكال الوصاية على الشعوب؟؟ أسئلة لا يمكن أن
تجيب عنها سوى الشعوب التي خرجت عارية الصدور تتحدى الموت و الجبروت.